كانت السنوات العشرون السابقة للمنفى (١٩٨٧-٢٠٠٧) زاخرة بالهجوم على شخصنا المتواضع، أو على مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، وهو المركز الذى أسسناه، بقيمة جائزة الكويت فى العلوم الاجتماعية والاقتصادية، التى حصلنا عليها عام ١٩٨٥ (مليون جنيه بأسعار ذلك الوقت). لذلك كان استئناف الهجوم بعد عودتى إلى الوطن بأسبوع واحد هو بمثابة تدشين، أو لنقل استكمال، لحدث العودة.
وللأمانة والإنصاف، فإن وسائل الإعلام المصرية والعربية والعالمية التى رأت أن عودتى إلى مصر تستحق أن تكون خبراً يستحق التنويه، كانت مثار دهشتى. فأنا لم أعلن ذلك إلا لأفراد أسرتى وزملائى فى مركز ابن خلدون، وثلاثة من المُحامين، الذين يتولون مُتابعة شؤونى القانونية. وذكرت فى مقال سابق، أنه كان هناك عدد كبير فى استقبالى لدى خروجى من مطار القاهرة الجديد، على كُرسى مُتحرك. ولأننى لم أكن أتوقع كل هذا العدد، ولا حرارة الاستقبال، فقد انهمرت دموعى، وهو ما لم يحدث، حتى عندما برأتنى محكمة النقض فى مارس ٢٠٠٣، بعد ثلاث سنوات من المُحاكمات والسجون. وظل الإعلام المُستقل خلال الأسبوع الأول على إيجابيته وترحيبه بعودتى، بينا ظل الإعلام الحكومى، مُمثلاً بـ«الأهرام» و«الأخبار» و«الجمهورية» على تجاهله لحدث العودة.
ولكن مع الأسبوع الثانى (١٢/٨/٢٠١٠) بدأت الأجهزة الأمنية تُحرك كُتابها. وكان ضمن ذلك، ما خرج به علينا رئيس تحرير الجمهورية فى مقاله الأسبوعى، تحت عنوان «غرام الأفاعى»، حيث تصور الرجل، أو قيل له إن ثمة مؤامرة يحبكها كل من مُرشد جماعة الإخوان المُسلمين، الأخ محمد بديع، وداعية الإصلاح الدستورى، الدكتور محمد البرادعى، وشخصنا المتواضع. وليت كان فيما ادعاه رئيس تحرير «الجمهورية» أى نصيب من الصحة. فأنا يُشرفنى أن أضع يدى، وأضم صوتى لكل من يسعى للإصلاح السياسى والإحياء الدينى. وخلال العشر سنوات الأولى من حُكم الرئيس محمد حسنى مُبارك، لم أترك فرصة، ولم أتأخر عن الاستجابة لما كان يطلبه، أو أى من أقطاب نظامه من مشورة أو خدمة عامة. ولكنه فقط خلال رئاسته الثالثة، وبعد أن لم يوف بوعوده التى قطعها على نفسه خلال الرئاستين السابقتين، حينما أنتقد سياسته.
كان هجوم مرتزقة النظام متوقعاً. بل إن وقوعه فى الأسبوع الثانى، بدا من حيث لم يقصد هؤلاء المرتزقة، كما لو كان جزءاً من عملية استكمال العودة نفسياً وفكرياً وسياسياً. ولكن الذى لم أتوقعه، وكان مصدر دهشة حقيقية، هو أن ينزلق سفير سابق، طالما حملت له، ولوالده رحمة الله عليه، مشاعر المودة والتقدير. وأقصد به السيد نبيل فهمى، سفيرنا السابق فى واشنطن، وهو أيضاً نجل السيد إسماعيل فهمى، وزير خارجيتنا الأسبق، الذى يذكره المخضرمون، لموقفه المبدئى، الذى ذاع صيته، عام ١٩٧٧، احتجاجاً على قرار الرئيس الراحل أنور السادات، بزيارة القدس، دون أن يكون قد ناقش الأمر مع وزير خارجيته، أو حتى مع مجلس الوزراء، أو عرضه على مجلس الشعب.
وكان الموقف المبدئى للأب إسماعيل فهمى، نادراً خلال النصف الثانى من القرن العشرين فى مصر المحروسة. فرغم أن مصر فى العصر الليبرالى (١٩٢٣-١٩٥٢) عرفت الاستقالات لأسباب سياسية ومبدئية، إلا أن هذا التقليد فى الحياة العامة المصرية، اختفى تماماً أو كاد، مع مجىء الزعيم الراحل عبدالناصر إلى السُلطة. لذلك حينما كانت تحدث استقالة من هذا النوع، فقد كان يذكرها المُعلقون، ويستذكرها المثقفون لسنوات طويلة. من ذلك، مثلاً، استقالة المرحوم الدكتور محمد حلمى مُراد، وكان وزيراً للتربية والتعليم فى أواخر ستينات القرن الماضى، احتجاجاً على استمرار نفس المُمارسات الاستبدادية للرئيس جمال عبدالناصر، بعد هزيمة ١٩٦٧، رغم وعده بعد مُظاهرات مارس ١٩٦٨، باحترام إرادة الشعب، وحُكم القانون، ومؤسسات الدولة.
وربما كانت استقالة إسماعيل فهمى، عام ١٩٧٧ هى الأشهر منذ استقالة د. محمد حلمى مُراد، طيب الله ثراهما. وكنت واحداً ممن حملوا للرجلين تقديراً عميقاً. وكالعادة، امتد احترامى من إسماعيل فهمى الأب، الوزير، لابنه نبيل فهمى، السفير. لذلك كانت دهشتى، أنه فى مُقابلة طويلة مع صحيفة (المصرى اليوم ١١/٨/٢٠١٠)، انتقى من كل تاريخه الدبلوماسى الحافل، واقعة يقول فيها إن الكونجرس الأمريكى هدد، ونفذ تعليق مائتى مليون دولار من المعونة الأمريكية بسبب قضية سعد الدين إبراهيم!
وأوحى نبيل فهمى بهذا التصريح، كما لو كان سعد الدين إبراهيم «محظياً» أو «عميلاً»، للولايات المتحدة. والذى لم يقله سفيرنا السابق فى واشنطن، هو أننى كنت سجيناً، لا أملك من الأمر شيئاً. كذلك لم يذكر الرجل، أن الكونجرس قد فعل ما فعل، تحت ضغط المنظمات الحقوقية العالمية ـ مثل منظمة العفو الدولية، ومرصد حقوق الإنسان (هيومان رايتس ووتش) فضلاً عن الروابط الأكاديمية، والمجامع العلمية، شرقاً وغرباً.
وحينما عبّرت عن استيائى ودهشتى لبعض من أتوا لتحيتى، حاول بعضهم، وخاصة من قدامى الدبلوماسيين، الذين كانوا يعرفون الأب إسماعيل، كما يعرفون الابن نبيل، أن يُخففوا من دهشتى واستيائى، وأنه منذ تقاعد من الخدمة الدبلوماسية، وهو يتقرب إلى رأس النظام، وأقطابه، أملاً فى أن يذكروه، ويُعيّنوه وزيراً للخارجية فى أى تعديل وزارى قريب.
وضمن سعيها المشكور لتأمين عودتى إلى الوطن، منعت زوجتى الفاضلة، د. باربارا ليثم إبراهيم، ظهورى أو مُشاركتى فى أى أنشطة عامة، وأن يزورنى من يشاء فى منزلنا. ثم وجدت أن ذلك ينطوى على مُخاطرة أيضاً، فرتبت لنا رحلة إلى تركيا ونزهة بالباخرة فى البحر الأبيض المتوسط، اصطحبنا فيها الصديق العزيز المهندس عصام عونى، وقرينته د. إيزابيث تايلور.. وهما خير أنيسين فى مثل هذه الرحلات الطويلة.
. وطالما شاركانا فى رحلات إلى سيناء والواحات، أو رحلات خارجية إلى الصين واليابان والهند. والمهندس عصام هو موسوعة مُتحركة فى شؤون وشجون الصناعة فى مصر. فهو من الرعيل الأول الذين أرسلهم عبدالناصر إلى ألمانيا فى منتصف خمسينات القرن الماضى، حيث تدرّب فى مصانع شركة «ديماج» الشهيرة، تمهيداً لتأسيس شركة الحديد والصُلب فى كفر العلو بحلوان. ولا يُخفى الرجل حسرته على ما لحق بالقطاع العام الصناعى فى مصر من «خنق» و«إفقار» و«تجسير»، لصالح مجموعات من المُغامرين الجُدد، الذين أصبحوا أقطاباً فى «لجنة السياسات» بالحزب الوطنى الحاكم، وفى غضون ذلك تحوّلوا إلى بيليونيرات، فى وطن لا يزال أربعون فى المائة من سُكانه يعيشون تحت خط الفقر، وهى ضعف نسبتهم فى ستينات القرن الماضى.
ولأننا كُنا فى تركيا، استذكر المهندس عصام عونى كيف كنا فى ذلك الوقت فى نفس المستوى من حيث درجة التطور ومستوى الدخل الفردى، كيف تقدمت تركيا لتكون رقم ١٦ عالمياً، من حيث حجم اقتصادها، وتخلفنا نحن إلى المركز الخمسين! سألت هذا الشيخ من شيوخ الصناعة المصرية: هل هناك أمل فى نهضة صناعية جديدة فى مصر؟ قال الرجل، والدموع محبوسة فى عينيه: هذا هو السؤال الذى أجاب عنه جيلى من خريجى هندسة عين شمس، عند تخرجنا عام ١٩٥٥، ولكن كانت هناك «ثورة» ساعدتنا فى تحقيق تلك النهضة.
فلا حول ولا قوة إلا بالله